الأحد، 7 أغسطس 2016

التحليل النفسي للرهاب .




التحليل النفسي للرهاب .

:::::::

التحليل النفسي للرهاب , لا زلتُ اذكرُ تلك اللحظات في البحرين على ساحل الخليج العربي , كان عمري أربع سنوات في آخر نهار يومٍ كنتُ فيه مع والديَّ لكنهما لم يشعرا بي و أنا انزلق من على سفح شاطيء ساحل الخليج حيث عثرت رجلاي و كدتُ أسقط لكنني قاومتُ و صعدتُ مرة أخرى بجهدٍ جهيد , لقد كان قلبي يدق بشدة و انتابني رهابٌ رهيب أظنُّ أنها كانت أولى لحظات الخوف الرهيب الذي أصابني على كوكب الارض في العالم المشهود .
المشهد الثاني كان في شارع منزلي الذي وُلدتُ فيه بالقاهرة حيث ولدت بمستشفى المعلمين في حي قصر النيل  , كنتُ ذا خمس سنوات و كنتُ العب في الطريق مع أصدقائي , و حدث أن نزعتُ كلمة ماركة السيارة الخاصة بالاستاذ عرابي جارنا , و اظنها كانت ملخلخة بالفعل , فوشا بي اطفال المنطقة فوجدتُ أم أحمد زوجته تنزل من العمارة فأصابني رهاب كبير ركضتُ على أثره إلى نهاية الطريق و أضمرتُ وقتها أن أقوم بتتويه نفسي خوفا من أم أحمد و صرحتُ بذلك لاصدقائي فقاوموني و حملوني مرة اخرى إلى المنزل و  من ضمنهم طفل كان يحمل قارورة حليب زجاجية بسدادة . و كان ذلك وقت المغرب , رهاب رهيب منذ لحظات الطفولة الأولى , و الجدير بالذكر أن تلك المراة التي كنت سوف أتوه بسببها تاه ابنها رامي و كان في العشرينات من عمره بعد ذلك بفترة في أمواج البحر المتوسط و لقى حتفه غرقا رحمه الله و ماتت حزنا عليه و قهرا تغمدهما الله في رحماته آميييييين .
المشهد الثالث تلك الأيام التي بدأتها في المدينة الجامعية بأسيوط في كلية الطب عام 1998 بعد احداث الدير البحري الإرهابية عام 1997 و كانت هناك شدة أمنية و قبضة رهيبة كانت تشعرنا بالخوف في الدخول و في الخروج , كان الرهاب يتجول في الغرف كل ليلة , و الخوف يسكن في أسرتنا كل ليلة .
المشهد الرابع و ذلك عندما كسرتُ الباب على قريبي الذي شنق نفسه .
أحداثٌ متتالية من لحظات الترقب الرهيب لرهاب في لجة الزمان , تمضي دقائقها و دقاتها و تبقى آثارها مدى الحياة , لكن المهم هو كيف التعامل مع هذا العرض النفسي , كل عملية جراحية اجريها كأنني أجريها لأول مرة من شدة الحرص , و هذا من إيجابيات الرهاب , أمتليءُ حذراً و دقةً وخوفاً على انسجة المريض لكنّ ذلك كله ياخذ من طاقة عقلي و دقات قلبي و راحة أعصابي ثم لا ألبثُ إلا أن أعود مرة أخرى بعد مرور تلك اللحظات الحرجة إلى الهدوء .
لكنني لا أحب شعور الرهاب , أم أنه من ضمن أركان قانون التدافع , لا ادري , ربما كان ذلك من ضمن أسباب النجاح .
المشهد الخامس كان في إذاعة الصباح في طابور المدرسة في ثانوية الملك خالد في بلاد الحرمين بالرياض في الصف الثاني الثانوي , كنتُ خائفا جدا و انا أتحدث أمام جموع طوابير صفوف المدرسة و كدتُ ابكي من شدة الرهاب  لكنّ ذلك بدأ يزول في الصف الثالث الثانوي في إذاعة ألقيتها في طابور الصباح باللغة الإنجليزية أثارت استياء الوهابيين المجرمين و ذلك فقط لمجرد أنها باللغة الإنجليزية و لم أخش منهم و آبه لهم بل واجهتهم بكل شجاعة !!! غريب أمري !!!  
لقد سمعتُ عن رهاب المياه , رهاب المرتفعات و رهاب المناطق و الأماكن المغلقة , الرهاب المخصوص , لكن ما اصابني أعتقد انه شيء ابعد من ذلك و اعظم , إنه رهاب مركب . الجدير بالذكر أنني فور اعتناقي فكرة ما لا أخش أحدا ابدا و ينجلي الرهاب بعيدا الى الهاوية و اتحرر منه بكل قوة !!!!
و الجدير بالذكر أيضا أنني أتغلبُ على ذلك الرهاب في المواقف العادية غير الفكرية و العقائدية كذلك بردود فعل معاكسة له مع الاعتبار الدائم للحذر و الحرص و الدقة لكن ذلك يجهد عقلي جدا لكنني لا ألبث إلا أن أستعيد قوتي مرة اخرى . لا أدري أ نعمة هي أم نقمة ذلك الشعور بالرهاب , كذلك الاحظ عدم رغبتي في حضور المناسبات العامة و الاختلاط بالناس بل أميل إلى العزلة و الانطواء و التأمل العميق .
لقد لاحظتُ ان مجاهدتي بالكلمة و الفكرة في سبيل عقيدة أؤمن بها  أو هدف فكري اراه مناسبا و حقا , أن ذلك يهزم كل رهبة تعرضتُ لها في حياتي !!!!!!!!!
لقد اصابتني بعض نوبات الوسواس القهري لدرجة انه أصابتني حالة من الخوف أن اكتب في الامتحانات الإعدادية خطاً إملائيا بالحبر الازرق فكنت اقوم بالاجابة بالقلم الرصاص ثم بعد الانتهاء أقوم بالكتابة بالقلم الازرق الحبر على ما كتبته بالقلم الرصاص مرة أخرى متتبعا ثنايا الحروف حرفا حرفا حتى أملأها كلها باللون الازرق و كأنني أكتب إجابة الامتحان مرتين , كان ذلك ياخذ مني مجهودا كبيرا لكنني مع ذلك كنتُ سعيدا جداً , إنه الوسواس القهري Excessive Compulsion  و هو نوع من انواع الرهاب .
أعتقد أنّ من ضمن اسباب إصابتي بذلك الرهاب هو حياة الغربة التي عشتها في دول الخليج مع والديّ ستة عشر عاما في البحرين و بلاد الحرمين . لذلك دوما أرفض السفر خارج مصر كي لا تحدث مع ابنائي نفس التجربة .

الجدير بالذكر أنّ الله ما انزل داءً إلا و أنزل معه الدواء , و العلاجُ بالمثل هو اعظم تلك العلاجات , حيث أنّ مهنتي كطبيب أخصائي جراحة هو افضل دواء لحالة الرهاب , بداية تمرسي في الاستقبال و الطواريء و مجابهة الحوادث و حالات التسمم و محاولات الانتحار و الشغب الذي يقوم به الهمج و الرعاع في ساحات الاستقبال بالمستشفيات المصرية التي يغيب عنها التأمين الامني و كذلك بكشفي على الجثث في المشرحة  و كتابة التقارير الطبية التي تحدد مسار القضايا و الأحكام و عدم الرضوخ لاي رغبة لدى أي طرف من طرفي القضية أو حتى لرئيس المباحث كل ذلك بالاضافة الى مشرطي الحبيب  الذي اقوم به بفتح اجساد المرضى لإجراء جراحات و استئصالات و تصليح , اعتقد أنّ كل ذلك يساعدني على استئصال مرض الرهاب مني بالتدريج و يعطيني قوة و ثقة كبيرة تظهر على قسمات وجهي يكتنفها الكثير من الحرص و الحذر و الدقة و هذا أمر جيد . لقد أطلق عليّ زملائي في العمل لقب أسد الإستقبال بسبب ذلك , لان الاستقبال بالذات يحتاج الى سيطرة مع انني لست قائدا و لا أميل للقيادة و الاداريات بل استطيع ان اقول أنها لحظات المواقف الحاسمة و الصعبة و فقط .   

لقد أصابني المرضُ و أصاب عملي المرضَ بالدواء فاختلطت مميزات المرض بمميزات الدواء فأعطتني الصورة المثالية و المناسبة التي أرادها الله لي .

لقد تكررت احداث الرهاب في حياتي مع كل امتحان شفوي أو امتحان تحريري في الثانوية العامة و في الباكالوريوس و في الماجستير .

المشهد السادس و الستة رقم و رمز الاكتمال ,  كان و انا طفلٌ ذو الست سنوات خرجتُ مع ابنة خالتي لكي تشتري طلبات منزلية و في الطريق ركضتْ هي و سبقتني عن عمد حتى كدتُ أفقد أثرها وسط زحام القاهرة , و شعرتُ حينها برهاب رهيب فطر قلبي ألماً لا زلتُ اذكره حتى الآن .

لقد كانت مهنتي خيرَ علاجٍ لذلك الرهاب و كذلك كان الرهابُ خيرَ حارسٍ لأداء مهنتي على افضل وجه , هكذا دائما يتجلى ركنٌ من اركان قانون التدافع , قانون العمارة .

لقد كانت نوبات تسارع الزمان و الحوادث في المشهد المرئي أمامي كشريط فديو تم تسريعه مصحوبا بخفقان قلبي شديد و تعرق و علو في معدل التنفس كنتُ استسلمُ لها و اجلسُ إن كنتُ واقفا و استلقي إن كنتُ جالسا ذلك الذي حدثتكم عنه العام الماضي و حدث معي في المرحلة الاعدادية و كان بسببه أن وجدتُ اثر ذلك في قوة التركيز و تجميع المعلومات و التوفيق بينها بشكل لم يكن لديّ سابقا , لقد كان ذلك مفيدا لعقلي رغم أنه لم يتكرر معي بعد ذلك أبداً , أعتقد أنها كانت إحدى عوارض الوسواس القهري بدأتها معي الملائكة المدبرة , لكنّ تلك الطريقة الفجة في حدوثه لي لم تتكرر مرة اخرى أبدا و بقيتْ آثارها الحميدة . التركيز العجيب في جمع المعلومات و التوفيق بينها . و احمد الله على ذلك .

و لكنني لا زلتُ لا أميل إلى كثرة مخالطة الناس بشكل اجتماعي , لا أحب كثرة الرد على التليفونات كذلك لا أميل إلى أن أكون قائدا ماديا يصدر الاوامر و يعطي تعليمات إدارية , غير أن التعليمات التي اعطيها للممرضات لا تدخل في تلك التعليمات المكروهة عندي . المهم أنه  ربما استطيع ذلك في المستقبل لكنني لا احب الادارة بل احب ان اكون كالطير محلقا حرا يكتب كلمات يقرأها الناس .

أحبُّ دائما أن أكون صادقا مع قلمي ليكون قلمي صادقا معي , لقد انخلعت فرامل اليد بيدي فلم تعد هناك فرامل تكبح جماح يدي الكاتبة بالقلم أو لساني الناطق بالعبارة و صوت الكلمة .

إنّ مشهد انتحار قريبي بسبب ازمة اقتصادية و نفسية طاحنة , إنّ مشهده و هو معلق نفسه بالمشنقة التي أعدها لنفسه في خلسة من أهل بيته وقت الضحى مغلقا باب غرفة نومه عليه قبل أن اكسره على اثر هاتف أرضي طلبه بعد ندائنا عليه مطولا و لم يجب , كان مشهداً أخرج كل ما في أعماقي و بلغ بوجداني و عقلي المنتهيات المعروفة حتى الآن في التجرد و البحث عن الحقيقة , لقد كان ألما خرج منه أمل في غدٍ مشرق  , هكذا هو العلاج بالضد , لقد كنتُ بائتا في بيته ليلتها مصادفةً منذ قرابة العشرين سنة . و كأنّ الله يريد أن يريني ذلك المشهد عن عمد لرغبة في نفسه العلية .
لقد كان مشهدا من مشاهد الرهاب الأليمة صرخت بأعلى صوتي بكلمة الجلالة لا اله الا الله عدة مرات سمعها الجيران فاضطربوا, أنزلته من على المشنقة بقطع حبالها بالسكين و حاولتُ عمل تنفس اصطناعي له , لقد كنت في كلية الطب وقتها , لقد حاولت اسعافه الا أن الوقت كان قد فات , لقد نفخت في فمه و ضغطت على قلبه الا انني لم اسمع الا صوت لسان المزمار يكركر من نفخاتي فادركتُ وفاته .

و بعدها أستطيعُ ان أقول أنّ استسهال أي عقبة في طريق الحق و الحرية بات طريقي . لقد نظرتُ إلى السماء يومها و رايتُ السحب مخروطة في مخروطٍ سماويٍّ لم اره من قبل و لم أره من بعد , لقد كان ذلك المخروط السحابيّ الابيض بوقاً من الأرض للسماء وكان ربي حينها و لا زال واضعا أذنه على فوهة البوق يسمع تلك الصرخة إلى الابد . د محمد ربيع , مصر .  




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق